الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقيل: إنه رأى في أوّل ملكه كأنه قابض على قرني الشمس، فقص ذلك، ففسر أنه سيغلب ما ذرّت عليه الشمس، فسمي بذلك ذا القرنين.وقيل: إنما سمي بذلك لأنه بلغ المغرب والمشرق فكأنه حاز قرني الدنيا.وقالت طائفة: إنه لما بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرونها فسمي بذلك ذا القرنين؛ أو قرني الشيطان بها.وقال وهب بن منبه: كان له قرنان تحت عمامته.وسأل ابن الكَوّاء عليًا رضي الله تعالى عنه عن ذي القرنين أنبيًا كان أم ملكًا؟ فقال: لا ذا ولا ذا، كان عبدًا صالحًا دعا قومه إلى الله تعالى فشجّوه على قرنه، ثم دعاهم فشجّوه على قرنه الآخر، فسمي ذا القرنين.واختلفوا أيضًا في وقت زمانه، فقال قوم: كان بعد موسى.وقال قوم: كان في الفترة بعد عيسى.وقيل: كان في وقت إبراهيم وإسماعيل.وكان الخضر عليه السلام صاحب لوائه الأعظم؛ وقد ذكرناه في البقرة.وبالجملة فإن الله تعالى مكّنه وملّكه ودانت له الملوك، فروي أن جميع ملوك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران؛ فالمؤمنان سليمان بن داود وإسكندر، والكافران نمرود وبختنصر، وسيملكها من هذه الأمة خامس لقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [الفتح: 28] وهو المهديّ.وقد قيل: إنما سمي ذا القرنين لأنه كان كريم الطرفين من أهل بيت شريف من قبل أبيه وأمه.وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حيّ.وقيل: لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعًا.وقيل: لأنه أعطي علم الظاهر والباطن.وقيل: لأنه دخل الظلمة والنور.وقيل: لأنه ملك فارس والروم.قوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض} قال عليّ رضي الله عنه: سخر له السحاب، ومُدَّت له الأسباب، وبُسط له في النور، فكان الليل والنهار عليه سواء.وفي حديث عقبة بن عامر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لرجال من أهل الكتاب سألوه عن ذي القرنين فقال: «إن أوّل أمره كان غلامًا من الروم فأعطي ملكًا فسار حتى أتى أرض مصر فابتنى بها مدينة يقال لها الإسكندرية فلما فرغ أتاه مَلَك فعرج به فقال له انظر ما تحتك قال أرى مدينتي وحدها لا أرى غيرها فقال له الملك تلك الأرض كلها وهذا السواد الذي تراه محيطًا بها هو البحر وإنما أراد الله تعالى أن يريك الأرض وقد جعل لك سلطانًا فيها فَسِرْ في الأرض فعلِّم الجاهل وثبِّت العالم...» الحديث.قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} قال ابن عباس: من كل شيء علمًا يتسبب به إلى ما يريد.وقال الحسن: بلاغًا إلى حيث أراد.وقيل: من كل شيء يحتاج إليه الخلق.وقيل: من كل شيء يستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الأعداء.وأصل السبب الحبل فاستعير لكل ما يتوصل به إلى شيء.{فَأَتْبَعَ سَبَبًا} قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} مقطوعة الألف.وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو {فَاتَّبَعَ سَبَبًا} بوصلها؛ أي اتبع سببًا من الأسباب التي أوتيها.قال الأخفش: تبعته وأتبعته بمعنى؛ مثل ردِفته وأردفته، ومنه قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] ومنه الإتباع في الكلام مثل حَسَنٌ بَسَنٌ وقَبِيح شَقِيح.قال النحاس: واختار أبو عبيد قراءة أهل الكوفة قال: لأنها من السَّيْر، وحكى هو والأَصْمَعيّ أنه يقال: تَبِعه واتَّبعه إذا سار ولم يلحقه، وأتبعه إذا لحقه؛ قال أبو عبيد: ومثله {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} [الشعراء: 60].قال النحاس: وهذا من التفريق وإن كان الأصمعي قد حكاه لا يقبل إلا بعلّة أو دليل.وقوله عز وجل: {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} ليس في الحديث أنهم لحقوهم، وإنما الحديث: لما خرج موسى عليه السلام وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه انطبق عليهم البحر.والحق في هذا أن تَبع واتّبع وأتبع لغات بمعنى واحد، وهي بمعنى السَّيْر، فقد يجوز أن يكون معه لَحَاق وألاّ يكون.{حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قرأ ابن عاصم وعامر وحمزة والكسائي {حامِيةٍ} أي حارّة.الباقون: {حَمِئة} أي كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء، تقول: حَمَأْتُ البئر حَمْأً بالتسكين إذا نزعت حَمْأَتها.وحَمِئت البئرُ حَمَأً بالتحريك كثرت حَمْأَتها.ويجوز أن تكون {حامِيةٍ} من الحمأة فخففت الهمزة وقلبت ياء.وقد يجمع بين القراءتين فيقال: كانت حارة وذات حَمْأة.وقال عبد الله بن عمرو: نظر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غربت، فقال: «نار الله الحامية لولا ما يَزَعُها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض» وقال ابن عباس: أقرأنيها أبيّ كما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في عين حَمِئَة»؛ وقال معاوية: هي {حامية} فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: فأنا مع أمير المؤمنين؛ فجعلوا كعبًا بينهم حَكَمًا وقالوا: يا كعب كيف تجد هذا في التوراة؟ فقال: أجدها تغرب في عين سوداء، فوافق ابن عباس.وقال الشاعر وهو تُبَّع اليمانيّ: الْخُلُب: الطين، والثأْط: الحمأَة، والحِرْمِد: الأسود.وقال القفّال قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربًا ومشرقًا حتى وصل إلى جرمها ومسّها؛ لأنها تدور مع السماء حول الأرض من غير أن تلتصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض، بل هي أكبر من الأرض أضعافًا مضاعفة، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها في رأى العين تغرب في عين حمئة، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض؛ ولهذا قال: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْرًا} ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم.
|